تجنيس القبائل النازحة (البدون) في السعودية: بين المعالجة الإنسانية والنظام القانوني

مقدمة
تُعد قضية القبائل النازحة أو فئة “البدون” واحدة من أكثر القضايا الاجتماعية حساسية وتعقيدًا في المملكة العربية السعودية. فهذه الفئة تمتد جذورها إلى عقود مضت، حين استقرت قبائل عربية داخل أراضي المملكة دون استكمال إجراءات التسجيل النظامي، مما أدى إلى نشوء أجيال تعيش في حالة “انعدام الجنسية”.
وفي السنوات الأخيرة، أولت الدولة هذا الملف اهتمامًا كبيرًا ضمن مسار الإصلاحات الاجتماعية والإنسانية، وبخاصة في إطار رؤية السعودية 2030 التي ركّزت على تعزيز الهوية الوطنية وضمان العدالة الاجتماعية.
هذا المقال يستعرض الخلفية النظامية للبدون، وشروط التجنيس، وآليات المعالجة، والتحديات، والرؤية الإنسانية التي تتبناها الدولة في معالجة هذا الملف الشائك.
أولًا: من هم البدون؟ الخلفية التاريخية والاجتماعية
مصطلح “بدون” يعني عديم الجنسية، أي شخص لا يحمل جنسية قانونية معترفًا بها.
وفي السعودية، يُطلق المصطلح على أبناء القبائل التي نزحت تاريخيًا من الدول المجاورة واستقرت داخل المملكة دون أن تُسجَّل أسماؤها رسميًا في نظام الجنسية أو الإقامة.
ومع مرور الزمن، وُلدت أجيال كاملة داخل المملكة لا تملك أوراقًا ثبوتية، لكنها تربّت وتعلّمت وارتبطت بالمجتمع السعودي، مما جعل وضعها القانوني بحاجة إلى معالجة خاصة تراعي التوازن بين القانون والبعد الإنساني.
ثانيًا: الأساس النظامي لتجنيس القبائل النازحة
يخضع التعامل مع فئة البدون لنظام الجنسية السعودية الصادر عام 1374هـ، ولا سيما المادة التاسعة التي تنص على أن منح الجنسية يتم بمرسوم ملكي بناءً على اقتراح وزير الداخلية.
وعلى الرغم من عدم وجود مادة قانونية محددة تُعنى بهم مباشرة، إلا أن الدولة تتعامل مع قضيتهم ضمن إطار التجنيس الإنساني أو تصحيح الأوضاع، عبر لجان مختصة تتبع لوزارة الداخلية وإمارات المناطق.
وتستند هذه اللجان إلى أدلة وقرائن تثبت ارتباط الشخص الفعلي بالمملكة، مثل:
- الميلاد داخل السعودية.
- الإقامة الطويلة المستقرة.
- الروابط العائلية مع مواطنين سعوديين.
- الاندماج الاجتماعي والثقافي.
ثالثًا: شروط تجنيس القبائل النازحة
رغم عدم الإعلان الرسمي عن شروط موحدة، إلا أن الإجراءات المتبعة تشير إلى وجود معايير عامة تُعتمد في تقييم الطلبات، وأبرزها:
- أن يكون الشخص مولودًا داخل المملكة لأبوين من فئة البدون أو أحدهما.
- الإقامة المستمرة والطويلة داخل المملكة.
- حسن السيرة والسلوك وخلو السجل من السوابق الجنائية.
- إجادة اللغة العربية تحدثًا وكتابةً.
- امتلاك مصدر رزق مشروع أو عمل ثابت.
- تقديم أدلة تثبت الارتباط القبلي أو الأسري بالمجتمع السعودي.
هذه المعايير تساعد على تحديد المستحقين الفعليين للتجنيس وتمييزهم عن الحالات غير المؤهلة.
رابعًا: آلية معالجة ملفات البدون
تتم معالجة الملفات عبر سلسلة من الخطوات المنظمة:
1. تسجيل البيانات
يتم رفع المعلومات إلى اللجان المركزية المعنية بالقبائل النازحة التابعة لوزارة الداخلية.
2. إصدار بطاقة “التنقل”
يُمنح الشخص بطاقة تعريف مؤقتة تتيح له:
- الحصول على التعليم.
- تلقي العلاج.
- العمل المحدود في القطاع الخاص.
- استخراج بعض الوثائق المدنية.
3. الدراسة الميدانية
تجري اللجان مقابلات شخصية وتتحقق من الوثائق والمعلومات والارتباطات العائلية.
4. الرفع للجهات العليا
إذا ثبتت الأهلية، تُرفع التوصية إلى وزير الداخلية لرفعها إلى المقام السامي لاستصدار مرسوم ملكي بمنح الجنسية.
5. استمرار دراسة الحالات
أما من لا تستوفي الشروط، فيُسمح لها بتجديد بطاقة التنقل إلى حين استكمال الدراسة.
خامسًا: البعد الإنساني في معالجة الملف
تنظر المملكة إلى ملف البدون باعتباره قضية إنسانية قبل أن يكون نظامية.
ولهذا ركّزت الدولة على:
- ضمان حق التعليم لجميع الأطفال.
- توفير الرعاية الصحية دون عوائق.
- تمكين الأسر من استخراج شهادات الميلاد والزواج.
- فتح بعض مجالات العمل أمام حملة بطاقات التنقل.
- إعادة تقييم شامل لجميع الملفات ضمن إطار رؤية 2030.
هذا التوجه يعكس حرص القيادة السعودية على إيجاد حلول متدرجة تحفظ كرامة الإنسان وتحقق العدالة الاجتماعية.
سادسًا: العقبات والتحديات
رغم الجهود الكبيرة، لا تزال هناك عدة تحديات تواجه المعالجة، أبرزها:
- صعوبة إثبات النسب والأصل القبلي نتيجة فقدان الوثائق.
- وجود جنسيات أصلية متعددة لبعض الأسر.
- الحاجة إلى تدقيق أمني دقيق وطويل لضمان حماية النظام.
- التفاوت الاجتماعي بين الحالات وتداخل العلاقات العائلية.
وتعمل اللجان المختصة على معالجة هذه الإشكالات تدريجيًا دون الإضرار بحقوق الأفراد أو تجاوز القوانين.
سابعًا: الآثار الاجتماعية لتجنيس المستحقين
يمثل التجنيس نقلة نوعية لأسر البدون، إذ يتيح لهم:
- الالتحاق بالتعليم الجامعي.
- الحصول على الرعاية الصحية المتكاملة.
- فرص العمل النظامي.
- القدرة على التملك والسفر.
- الاندماج الكامل في المجتمع السعودي.
ومن منظور وطني، فإن تجنيس المستحقين يسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، خاصة أن غالبية هذه الفئة وُلدت وتربّت داخل المملكة.
ثامنًا: الموقف الرسمي والرؤية المستقبلية
تؤكد الجهات المختصة أن ملف البدون قيد الدراسة المستمرة، وأن المعالجة ستكون شاملة ومتدرجة، مع الاحتفاظ بالتوازن بين:
- المصلحة العامة
- النظام القانوني
- العدالة الإنسانية
- الحفاظ على الهوية الوطنية
كما تعمل الدولة على تحديث بيانات حملة بطاقات التنقل إلكترونيًا، تمهيدًا للتصنيف النهائي للحالات المؤهلة للحصول على الجنسية.
خاتمة
يمثل تجنيس القبائل النازحة في السعودية خطوة إنسانية ونظامية مهمة، تعكس التزام الدولة برعاية من عاش على أرضها وشارك مجتمعها وتاريخه.
ورغم أن دراسة الملفات تتم بعناية ووفق ضوابط دقيقة، إلا أن رؤية المملكة واضحة:
الجنسية تُمنح لمن يستحقها وفق أسس قانونية وإنسانية تضمن العدالة وتحافظ على هوية الوطن.
وبهذا النهج، تتحول قضية البدون من ملف اجتماعي مزمن إلى قصة إصلاح إنساني وقانوني تقودها الدولة بخطوات متوازنة وقرارات راسخة.
لا تعليق